شراكة البلديات والقطاع الخاص: الفرص والتحديات
ظهرت الشراكات بين الهيئات المحلية (البلديات والمجالس القروية) والقطاع الخاص في بعض دول الجوار في وقت مبكر من تسعينات القرن الماضي ولازالت في مراحلها الأولية. ومع ذلك، فإن الموضوع يكتسب زخما كبيرا واهتماما متزايدا عند الطرفين. ويبدو أن الهيئات المحلية في العديد من هذه الدول قد إسترشدت بالاعتبارات التجارية والربحية كأساس في التنمية المحلية والوطنية مع الحفاظ على بعض وظائفها الأساسية المتمثلة في توفير وتقديم الخدمات العامة بالإضافة الى ممارسة مسؤولياتها فيما يخص التنظيم العمراني وقيامها بالدور التنسيقي المكمل لبعض القطاعات والتي من أهمها التعليم والصحة والشباب والزراعة. ورغم ما تتحمله البلديات من عبء لتوفير جميع الخدمات السابقة كما ونوعا إلى أن هذه الشراكات ما بين الهيئات المحلية والقطاع الخاص قد سطرت درسا عظيما في العمل التنموي على مستوى المحليات، شملت هذه الشراكات مختلف المجالات: التجارة، وخدمات الإنتاج والسياحة والصناعة والمياه والصرف الصحي والبنية التحتية والإسكان والاتصالات وتكنلوجيا المعلومات.
تنعم غالبية البلديات في فلسطين بمناطق وموارد طبيعية وبشرية جاذبة للاستثمارات في مجال التجارة والخدمات. وقليل من البلديات التي قامت بتوظيف الإمكانات ضمن خطط تنموية ورؤى استراتيجية والتي بفضلها وبعد مشاركة او تحفيز القطاع الخاص على الاستثمار تحولت المناطق المستهدفة إلى رافعة لتحسين موارد هذه البلديات من جهة والى دفع عجلة التنمية المحلية بوتيرة متسارعة من جهة أخرى وذلك من خلال تطوير المراكز التجارية والخدمية وبناء العقارات والمجمعات الخدمية المساندة، وتمتاز الهيئات المحلية التي تقع بالقرب من المدن الكبرى على مواقع جاذبة للاستثمار في القطاع الصناعي وقطاع الإسكان والعقار وذلك بسبب قربها من الأسواق الاستهلاكية الكبيرة في المدينة وسوق العمل، هذا من جهة، وسهولة الحصول عليها وتوفير الأراضي لغايات الاستثمار غير المكلفة نسبيا بالمقارنة مع تكلفة مثيلاتها في قلب المدينة؛ من جهة أخرى. اما بخصوص الهيئات المحلية التي تتمتع بالطبيعة الجغرافية والمكانية المميزة والمناظر الطبيعية الجذابة والغنية بالموارد الطبيعية الأخرى الاستفادة من موقعها لجذب استثمارات القطاع الخاص في مجال السياحة والصناعات ذات الصلة الترفيهية أو الاستخراجية أو التحويلية.
تضع الهيئات المحلية نصب عينيها دائما البدء بالشراكات مع القطاع الخاص على وجه التحديد ومؤسسات المجتمع المدني على وجه العموم او توسيع ما هو قائم منها. ومبرر ذلك هو ان هذه الشراكات تمكن الهيئات المحلية من زيادة مصادر إيراداتها وذلك لعدم استدامة المصادر الخارجية منها وتدني الاقتدار المالي للمصدر الداخلي الحالي، وتسعى أيضا هذه الهيئات من وراء هذه الشراكات الى تحسين كبير في مستوى المعيشة ورفاهية سكانها وتقديم الاحتياج من الخدمات بأسعار معقولة وبجودة عالية. ويشكل الحد من الاعتماد على الحكومة المركزية كمصدر لتمويل المشاريع وتنفيذ سياساتها التنموية والتي في بعض الاحيان تكون متعارضة مع السياسة التنموية للهيئة المحلية نفسها أساسا لعقد الشراكات مع القطاع الخاص، ومع ذلك، ينبغي أن ينظر الى توسيع نطاق الشراكات بحذر لأنها يمكن أن تؤدي إلى تحول كبير في التركيز على السياسة العامة للهيئة المحلية، فتعزيز الشراكات قد يحد من قدرة الهيئة المحلية على تقديم الخدمات لسكانها ولرجال الأعمال ومن متطلبات التنمية الاقتصادية المحلية برمتها.
إن الانتقال من أحكام الخدمة غير الربحية إلى النشاط التجاري الربحي قد يغير كثيرا من جوهر وكينونة الهيئة المحلية. فالهيئات المحلية التي تعكف على تبني منهج شراكة القطاع الخاص لن تواجه منافسا واحد وستحكم بقواعد متميزة تمليها قوى السوق. وفي هذه البيئة ستتنازل الهيئات المحلية عن التفرد التي كان يتميز نشاطها السابق فيه والمتمثل بتقديم الخدمات، وكذلك فهي ملزمة أن تأخذ بعين الاعتبار مصالح ومطالب واحتياجات الشركاء الآخرين. وهذا يعني أن الهيئات المحلية التي لديها القدرة على التكيّف مع أنظمة السوق والتنافس مع الهيئات المحلية الأخرى على استقدام وتوظيف رأس المال المحدود المتاح للاستثمار. في هذه المنافسة سيتطلب من الهيئات المحلية لجذب رؤوس الأموال لديها تقديم الحوافز المختلفة مثل الأراضي وتقليص العمليات البيروقراطية في الهيئة نفسها، وتهدئة الاعتراضات العامة والبحث عن القروض والمنح والتخفيضات الضريبية وهلم جرا. هذا الوضع الجديد يرتبط بالاعتبارات التجارية والعامة التي تحدد طبيعة التنمية المحلية المستقبلية. هذا هو التوجه الجديد المطلوب والذي لا تزال قواعده غامضة وتحتاج إلى توضيح وذلك لغياب الثقافة التنموية العصرية عند غالبية الهيئات المحلية الفلسطينية.
أيضا؛ يجب أن يتكيّف القطاع الخاص مع الظروف الجديدة وموائمة نشاطاته مع منظومة التوجه البلدي وما يترتب عليها من إجراءات، وهنا يجب ضبط بعض القيود وتقديم تنازلات بشأن بعض القضايا مثل منح الأولوية وإتاحة الفرصة للبلدية لحماية البيئة وممارسة مسؤوليته المجتمعية بشكل فعلي وتحديدا تجاه فئة المحرومين والمهمشين وذوي الاحتياجات الخاصة والمرأة رغم نية البلدية المسبقة بالاستحواذ على الحصة الكبيرة في الشراكات، مما يمنحها حق النقض ضد اهمال القضايا البيئية والقضايا العامة الاخرى. لكن التغيير الرئيسي هو تغلغل القطاع الخاص في عملية رسم السياسية المحلية بما يحقق أهدافه الخاصة متجاهلا الأهداف العامة للمجتمع المحلي وما يرتبط مع اهداف بالسياسة الإقليمية والوطنية والمحلية. ستمثل المؤسسات المنبثقة عن الشراكات التي أنشئت من قبل البلدية والقطاع الخاص إنشاء هيكل اجتماعي سياسي جديد يتيح لأصحاب مثل هذه المؤسسات حق الاستفادة من الوصول إلى الموارد الحكومية مثل الأراضي والمنح الحكومية والإعفاءات الضريبية والقروض منخفضة الفائدة؛ هذا بالإضافة الى قربهم من صنع القرار وعلى وجه الخصوص ما يخص التخطيط وموضوع تخصيص الأراضي. هذا بدوره يجعل سرعة وصول هؤلاء الشركاء الى السلطة بشكل لم يسبق له مثيل مقارنة بغيرهم من أصحاب المشاريع والقطاعات التي لا توجد لها شراكات مع الهيئات المحلية، كل ذلك يمنح رجال الأعمال قدر كبير من السلطة في تشكيل مستقبل البلدة والمنطقة وحتى تشكيلهم لجماعات ضغط سيكون بمقدورها التأثير في رسم السياسة العامة.
إن التحدي الكبير الذي يواجه الهيئات المحلية في موضوع عقد الشراكات مع القطاع الخاص هو تحقيق التوازن بين اعتبارات الصالح العام وتحقيق الربحية المالية؛ وبين تعزيز الخدمات العامة والتنمية الاقتصادية المحلية من جهة؛ وبين قيمة المشاريع المطلوبة والمنوي الاستثمار فيها لتحقيق الازدهار من جهة أخرى. وفي هذا الخصوص يفترض ان يكون واضحا للهيئات المحلية ماهية المصلحة العامة وما يتصل بها من قضايا مثل الرعاية الاجتماعية، والبيئة، والتعليم والصحة والنظرة الجمالية والحضارية، ويجب الا تطغى الاعتبارات الربحية على المصلحة العامة تحت أي ظرف من الظروف.
وثمة مسألة أخرى هي مصير الرؤية الشاملة والتخطيط العمراني للبلدات والمدن، واستراتيجية زيادة رأسمال المشاريع الخاصة من خلال الانشغال بعقد الشراكات مما يؤدي الى تحويل التركيز من التخطيط الشمولي الى التخطيط المتعلق بالمشاريع. والاستعاضة عن المخطط العمراني للبلدة او للمدينة بآخر يخدم القطاع الخاص حتى لو كان فيه إخفاقات وتجاوزات وعدم واقعية، في سياق هذه العملية هناك خطر يحدق بالكيان البلدي جغرافيا وإدارة ومواطنين يتمثل في أن تصبح مجموعة من الأفراد هي صاحبة القرار والنفوذ، مما ينتج مشاريع لا علاقة لها بالتنمية المحلية وهذا ما يتعارض مضمونا وجوهرا مع الأدبيات التي تقوم عليها أصول الشراكات.
إن عدم وجود خطة شاملة في ظل منافسة غير مقيدة بين البلديات نفسها على جذب استثمارات القطاع الخاص وتحفيز رجال الأعمال على زيادة حجم مشاريعهم قد يؤدي إلى انتشار غير مسبوق من فوضى الاعمال في المناطق التجارية والصناعية. والسؤال الذي يطرح نفسه هو ما إذا كانت الأنشطة التجارية والاستهلاكية والخدمية في البلدات والمدن لا تحتاج الى كل تلك المناطق التي تم تخصيصها وتلك الانشاءات التي بُنيت لأنشطة الشراكة مع القطاع الخاص؟ ففي غياب التخطيط الشامل الذي يُقَدِر الطلب المتوقع ستكون الرؤية مجزأة ومنقوصة مما يؤدي إلى وجود فائض من المناطق التجارية والصناعية والخدمية الأخرى؛ وستكون النتيجة الحتمية في تلك المناطق هي أسعار منخفضة للإيجار نتيجة زيادة العرض في ظل الطلب محدود. هذا ما سيقود الى الوقوع في أزمة اقتصادية وانحدار مستويات الازدهار والنمو على عكس المأمول والمتوقع من عقد الشراكات.
في ظل هذه الظروف فإن الهيئات المحلية ملزمة بتحقيق التوازن بين التنمية الاقتصادية والرفاه الاجتماعي والوضع البيئي، والحفاظ على النمو، والعمل مع رجال الأعمال وتقديم الخدمات العامة، والحصول على الموارد واكتساب الشرعية، وخلق تصور حضري شامل. وهنا تبرز الحاجة لوجود آلية تنظيمية جديدة من شأنها تقريب وجهات النظر المتضاربة بين أصحاب المصالح والجمهور، هذا بالإضافة الى تسهيل الاستثمارات وزيادة رأس المال العامل دون المخاطرة وخسارة ثقة الجمهور.
لقد تم تطوير مثل هذه الآلية التنظيمية على الصعيد الوطني في الدول الغربية في نهاية الحرب العالمية الثانية. في مثل هذه الظروف تهدف الحكومة الى تحقيق النمو الاقتصادي مع الحفاظ على استخدام بعض الموارد العامة للرعاية الاجتماعية والتوازن البيئي. يبدو أننا في الحالة الفلسطينية في هذه الايام مطلوب منا تبني آلية تنظيمية مماثلة على مستوى التطوير الحضري، من أجل تحقيق التوازن بين التنمية الاقتصادية ونوعية جيدة للحياة. هذه الآلية لا تهدف إلى استبدال آليات التنظيم الوطنية ولكن لتكملتها كلما كان ذلك ممكنا، في مجالات التنمية الحضرية والاجتماعية والاقتصادية والبيئية.
إن الحاجة إلى وجود آلية تنظيم حضرية تزداد يوما بعد يوم على خلفية التحولات الاقتصادية والسياسية التي تميز عصرنا الحالي. وعلى الرغم من امتلاك وسائل قوية تحت تصرف الحكومات لتحديد سياسات الرعاية الاجتماعية والنقدية والمالية وكذلك مع تلك التي يمكن أن تؤثر على حركة رأس المال ومستوى الرعاية الاجتماعية، فإن قدرتها على التأثير قد تضاءل بخصوص الرعاية الاجتماعية المحلية والنمو الاقتصادي المرتبط بأنشطة الهيئات المحلية. وفي الوقت نفسه تعاظمت أهمية الهيئات المحلية في تسوية العلاقات بين النمو والرفاه. وأسباب ذلك هي: حركة رأس المال العالمي والوطني، حيث أصبح من الضرورة الاهتمام المتزايدة من قبل الهيئات المحلية في رفع رأس المال، واستثماره بشكل أمثل بهدف الوصول إلى التنمية الاقتصادية المستدامة هذا بالإضافة الى إشراك الجمهور بشكل مضطرد في الانشطة المدنية.
إن الاستنتاج الواضح هو أنه في عصر العولمة ترتفع الأهمية ليس فقط لخصائص اللغة وللمواقع الاستراتيجية، ولكن يتميز أيضا في تطور الثقافة فيما يخص السياسية المحلية. وما شابهها، إلى حد كبير، وتحديد طبيعة الأماكن التي ستدعم التوازن بين النمو والرفاه، هذا بالإضافة الى ضرورة توظيف رأس المال من رجال الأعمال للحصول على الشرعية والقبول العام في المجتمعات المحلية، وتحظى فكر القيادة الحضرية وقدرة السياسيين والمقيمين لخلق توازن بين بعض الاحتياجات والقيم باهتمام كبير بين الجمهور في ظل حقبة جديدة من الشراكات بين رأس المال القطاع الخاص من جهة وبين رأس مال البلدية وما تقدمه من خدمات وبنية تحتية واراضي وكادر بشري من جهة أخرى، وعليه من المناسب ان يدار النقاش العام للوصول الى افضل الشراكات التي تحقق اقصى طموح للجمهور واعظم ربح للقطاع الخاص والبلديات.
مقترحات لابد من أخذها بعين الاعتبار:
في الشراكات بين النظام البلدي والقطاع الخاص هناك تحديات وفرص. وتتمثل الفرص بتعزيز روح المبادرة من أجل إحداث التنمية المحلية، ورفع رأس المال المستثمر لنفس الهدف من القطاع الخاص، والحد من الاعتماد على الحكومة المركزية وتحسين نوعية الحياة. أما التحديات فهي: عدم وضوح الأنشطة الاقتصادية موضع الشراكات، واحتمالية لجنح السلوك بشكل غير مرغوب فيه من أحد الأطراف او كليهما، وصعوبة التحول من التخطيط المحدود للتخطيط الشمولي، حيث يؤدي ذلك لإضعاف الممثلين المنتخبين في الهيئات المحلية وإعاقة التمثيل الديمقراطي. ولذا يقترح أن يتم وضع سياسة للبلدية تتناغم والسياسة الوطنية والتي من شأنها تقليل التحديات والمخاطر وزيادة الفرص وعكس ذلك في عقد المزيد من الشراكات.
يجب على الهيئات المحلية (البلديات والمجالس القروية) تطوير النظام البلدي والقروي فيما يخص الضوابط والتوازنات بين المصلحة العامة وحماية مبادئ الديمقراطية التمثيلية والنظر لتعظيم أرباح الأعمال بطريقة جدية، وكذلك تحسين الخدمات اللازمة لإحداث التنمية الاقتصادية المحلية، والسعي بشكل دائم لإنجاح رجال الأعمال بشكل متوافق مع تحقيق رفاهية السكان. وهنا لابد من تبني آلية جديدة تقوم على أساس استقرار العلاقات بين المهام المتعارضة، وتسمح للهيئات بزيادة رأس المال والاستثمارات لتأمين ثقة الجمهور.
وفي السياسة على المستوى الوطني ينبغي تجنب اعتماد مفهوم الصورة النمطية تجاه الشراكات، والذي يتجلى في حصر الدعم وتحديده أو رفضه كليا أو أن تقدم البلدية نفسها على انها مستشار مشارك فقط، وفي هذا الصدد يجب اتباع السياسة التفضيلية، استنادا إلى طبيعة اقتصادية الشراكة والموقع الجغرافي للبلدية داخل المنظومة الوطنية (استراتيجي أو مهم أو جاذب أو ذي فرصة)، وكذلك الإطار الزمني لمدة الشراكات (طويلة أو متوسطة أو قصيرة الأجل أو شراكة آنية).
وينبغي وضع معايير معينة لتحديد أي المجالات الاقتصادية ذات أولوية لدعمها وادراجها في الشراكات وماهي مدة هذا الدعم وماهي النسب الممكن المساهمة فيها. وفقا لهذه المعايير، يتطلب تعريف وصياغة منفصلة لبعض البنود الناظمة لأسس الشراكات، والتي ستكوِّن الخطوط العريضة المناسبة في خطة الأولويات الخاصة بدعم الشراكات. هذه الخطة ستعمل جنبا إلى جنب مع الخطة الموجودة، والتي تتعلق بالتخصيص المكاني للموارد والمنافع. وستحدد كل خطة من الخطط نموذج الدعم في التخصيص المكاني للموارد. وستكون هناك خطة تختص بتوزيع الاستثمارات العامة للبلدية نفسها والاستثمارات العامة الأخرى مع القطاع الخاص.
إن الحاجة إلى وجود آلية على مستوى البلدية وتبنيها بشكل رسمي وفعلي وإقامة نظام مؤسسي فيما يخص الأولويات التي تتعلق بالشراكات مع القطاع الخاص لهو أمر ضروري. هذا في ضوء الاحتياج المتزايدة للهيئات المحلية (البلديات والمجالس القروية) لمشاركة القطاع الخاص في الأنشطة التجارية والاقتصادية رغم ما سيرافق ذلك من تحديات ومخاطر ولكن هناك كثير من الفرص التي يمكن استغلالها واستثمارها.
http://www.maannews.net/arb/ViewDetails.aspx?ID=753198